الثقافة والأدب

وظيفة غائبة في عالم النشر العربي
المحرر الأدبي

  • farewell_to_arms
  • from-here-to-eternity-title-still
  • James Jones 1
  • Maxwell Perkins 1+shadow1
  • Robin Robertson
  • Thomas Wolfe 1
  • tumblr_m1m1jio3I11rsdcdko1_500
  • Virgil
  • catch-22 cover
  • Ernest Hemingway 3
  • F. Scott Fitzgerald 4

يقع «التحرير الأدبي» في رأْس أبجدية صناعة النشر العالمية؛ فـ«ألف باء» هذه الصناعة الحيوية و«الحسّاسة» تقوم على أن الكتابةَ الإبداعيةَ منهجٌ في المقام الأول وآليّة، تتخطّى العفوي والطارئ، تتجاوزُ الخواطرَ المرسلة، دونما ضبْط، والأفكارَ المسترسلةَ، دونما ربْط، إلى Process، أي عملية تواصليّة تكاملية، تنطلق من فعلٍ رئيسٍ هو المؤلِّف، بحيث تواكب الجهةُ الناشرة «تبلور» عمله الإبداعي وتطوّره من خلال أحد أهم عناصرها؛ أي: المحرِّر الأدبي. تقودنا هنا حزامة حبايب في جولة حول أسرار لا تدور إلا في دهاليز الأعمال الأدبية الخالدة، فإذا كان الكاتبُ يملكُ حقَّ الخيال والجمال بإسهاب، فإنّ المحرِّرَ يملكُ التقنيةَ التي تتيح له أنْ يزنَ الخيالَ والجمالَ المسهبيْن بمكيال..

لا تستوي العمليةُ الكتابيةُ الإبداعية دون «تحرير»، بمنطق المراجعة والصّقل والتشذيب، التصويب والتصحيح، التدقيق وإعادة التدقيق، إعادة الكتابة وإعادة على الإعادة، في نوع من الموازنة والمواءمة وبعض «المساومة» التي تقتضي فرض قدرٍ من الانضباط على الكتابة الإبداعية التي تميل بطبيعتها إلى الجنوح و«التفلّت».

تهدف «العمليّة التحريرية» في الأساس إلى فرْض أطُر تقنيّة وتكتيكيّة تجعل العملية الإبداعية، ككلّ، تجربةً تزاوج بين الأفكار السابحة بإيغال في محيط الخيال الهائج وبين قوانين الإبحار الحصيف، لغوياً وتعبيرياً وبنائياً، فتحيل الالتماعات السائبة إلى إضاءات موزَّعة بانتظام في بؤر التعبير، إذ تضيء أكثر في المواقع التي تقتضي التوسع والإسهاب، كما تكون ومضات عابرة، في المساحات التي تستلزم الاختزال والاختصار.

إذا كان المؤلِّف أو الكاتب هو شجرة العمل، إذْ انغرست جذراً، فارتفعت جذعاً، فغصوناً شائكة متشابكة، فإنّ المحرِّر الأدبيّ هو «المقصّ» الذي لا غنى عنه، لقطع ما زاد من الغصون، ما هاج منها وما ترهّل؛ وهو قصٌّ مؤلمٌ تارة، يأخذ شكل الجزّ الأفقي والرأسي؛ وقد يكون جراحياً، أشبه باستئصال أورام موضوعية، تماماً كما قد يكون من قبيل التقليم الخفيف الذي يُراد به حفّ الزوائد.

الوصف الوظيفي
يشكِّل «المحرِّر الأدبي» عنصراً إلزامياً، عاملاً وفاعلاً، في دور النشر العالمية المعنيّة بإنتاج وتسويق المنتج الأدبي. كتوصيف وظيفي، فإنّ مهمّةَ المحرِّر الأدبي تتمثل في تحضير المؤلَّف أو العمل الأدبي وإعداده للنشر، بحيث يعمل المحرِّر مع المؤلِّف، لضمان تقديم صيغة نهائية «مثالية» لعمل يقوم على أرفع المعايير الجمالية والإبداعية والفنية، خالياً من التضاربات والتناقضات، منقَّحاً من الأخطاء النحوية والإملائية والتراكيبية، مجرّداً من الاختلالات البنائية.

في الغالب، تبدأ وظيفة المحرِّر الأدبي بعد انتهاء العملية الإبداعية، ليضع قلمه وملاحظاته وتعديلاته واقتراحاته على مسودة الكاتب. على أنه في عديد من دور النشر، التي تتعامل مع أسماء إبداعية مكرَّسة، والتي تتعاطى مع النشر كصناعة «كُبرى» تتألّف من مراحل إنتاجية، يقوم المحرِّر الأدبي بوظيفته أثناء انشغال الكاتب بعمله، أو بالتزامن معه، فيرافقه أثناء عملية الكتابة، يقرأ الفصول أولاً بأول، مقدِّماً مداخلاته واعتراضاته، ضمن مراجعة نقديّة «تشريحية» تسعى في المبتدأ على أن يظلّ الكاتب على «الطريق» أو المضمار التعبيري الذي يستلزم انسجاماً وتكاملاً وتواصلاً واستمرارية في الرؤى والأفكار والتصوّرات. وفي بعض الحالات، قد يرافق المحرِّرُ المؤلَّفَ منذ النواة الأولى للعمل؛ أي الفكرة وتجلّياتها، في تعاون قلّما نجده في صناعة النشر الحالية، ذلك أنه يستدعي التزاماً مطلقاً من المحرِّر للعمل الإبداعي، كما يتطلّب انصياعاً شبه تام من المؤلِّف لآراء محرِّره «الخبير».

ضمن التوصيف أعلاه، فإنّ وظيفةَ «المحرِّر الأدبي» تقتضي مواصفاتٍ مهنيةً وشخصيةً صارمة، بحيث يتعيّن عليه أن يكون قادراً على اتخاذ أحكام نقدية مهنية، بعيداً عن الهوى الشخصي، محيِّداً مشاعره الشخصية إزاء الكاتب، وإزاء العمل نفسه. وبالطبع، فإنّ المقدرةَ على بناء حكمٍ نقدي سليم لا تتأتّى إلا من خلال تمتُّع المحرِّر بثقافة أصيلة ومعرفة متجدِّدة، تراكميّة، وتاريخ ملتزم ومتواصل من القراءات النوعية، يُضاف إلى ذلك الإحاطة بأسس التحرير اللغوي والنحوي.

المعيب، وعلى نحو صارخ، أنه في الوقت الذي تتّخذ فيه صناعة النشر في العالم الغربي صفةً مؤسساتيةً، حيث تُناط عملية إعداد الكتاب للنشر لطاقم بشري مؤهل بمهام «تحريرية» عدّة ومتشعبة، فإنّ عملية النشر في الدول العربية، تأخذ إلى حد كبير طابعاً «دكاكينياً» فردياً، حيث يعتمد قرار النشر على فرد، يتمثل في مالك دار النشر ومديرها، كما تفتقر عملية النشر إلى الآلية «العملياتية» بمعظم مراحلها التحريرية اللازمة، فتتحول مسودة النصّ إلى كتاب مطبوع، وقد خرجت الكلمات من ذمة المؤلف إلى ذمة التاريخ، دون مراجعة كافية ودون تمحيص سياقي وبنائي، مع الاكتفاء – في الغالب – بالحد الأدنى من التحرير اللغوي الذي يشتمل على تصحيح الأخطاء الإملائية والنحوية، ضمن مهمة يقوم بها مدقِّق لغوي لا علاقة له بالضرورة بالكتابة ومعطياتها.

إلى جانب التدقيق اللغوي والقواعدي، تشمل عملية التحرير الأدبي في أبسط قواعدها الرئيسة: استقراء «المنحنى السردي» الذي يربط المقدمة بالوسط والخاتمة، حتى وإن كانت هذه الأجزاء الثلاثة غير متواترة على المنحنى، بالإضافة إلى الحفاظ على الاتساق أو «التساوق» (أو ما يشار إليه باللغة الإنجليزية Consistency)، سواء في الحبكة الرئيسة أو في الجزئيات التي تتكامل ضمن البناء العام للنص. كذلك، يعتني المحرر بالزمن، باعتباره من مستويات النص، تماماً كما يعتني بالفعل، على اعتبار أن الفعلَ تطبيقٌ للزمن وانعكاس له، وتقنيات التنقل بين أنواع الأفعال المختلفة، وما يعنيه هذا التنقل – بالضرورة – من انتقال زماني.

وإذا كانت ثمة من صفة أصيلة تلازم المحرر فهي القسوة؛ القسوة على النصّ، فلا نص «إكليركياً» مقدساً هنا. فالبتر، بتر الجُمل والفقرات، ضرورة لإنقاذ جسد الكتابة أحياناً. والحذف قد يضيف للمعنى أكثر مما قد ينتقص منه.

الأسطورة بيركنز
استوعبت صناعة النشر في تاريخها الحديث محرِّرين لامعين أضافوا لها، من أبرزهم: الأمريكي بوب غوتليب، الذي كان وراء شهرة الروائي الأمريكي جوزيف هِلَر، والأمريكي النمساوي المولد فرانز بلي، الذي كان أول من نشر قصصاً للكاتب الألماني فرانز كافكا، والكاتب والشاعر الإيطالي جيورجيو باساني، الذي كان كبير المحررين في دار نشر «فيلترينيلي» الإيطالية المرموقة في خمسينيات القرن الماضي، والأمريكية البارزة جوديث جونز، المحررة الرئيسة في دار «نوف» الأمريكية، والتي أشرفت بنفسها على كل أعمال الروائي والشاعر الأمريكي جون أبدايك، والأمريكي إن. بي. ويليس الذي عمل مع أسماء لامعة مثل الكاتب الأمريكي إدغار ألان بو.

على أنه من الصعب الحديث عن الأسماء التحريرية الكبرى في صناعة النشر، دون التوقّف عند إرث الأمريكي ماكسويل بيركنز، المحرر الأدبي الأشهر في تاريخ الأدب الحديث، «طاغية» الكلمة الحكيم؛ البات، القاطع، المانع، الذي اشتُهر بالحصافة الفكرية واللغوية، والإمكانات التحريرية الفذّة، حيث يُنسب له الفضل الأكبر في شهرة أعمال أصبحت من كلاسيكيات الأدب الحديث لأدباء مثل إيرنست همنغواي وإف. سكوت فيتسجيرالد وتوماس وولف.

اقتحم بيركنز مضمار التحرير الأدبي في العام 1910م، بالتحاقه بدار تشارلز سكْرِبْنَرز صَنْز المرموقة للنشر، بعدما عمل لبعض الوقت مراسلاً صحفياً في جريدة نيويورك تايمز الأميركية. كان في السادسة والعشرين من عمره آنئذ، شاباً مولعاً بالأدب، قارئاً مثقّفاً، واسع الاطلاع، صاحب نظرة لم تلتقِ بالضرورة مع التوجه السائد لدى دار النشر، المنحازة لأسماء أدبية مكرَّسة أمثال الروائي الأمريكي هنري جيمس، الذي يُعدّ من أبرز كتاب التيار الواقعي لأدب القرن التاسع عشر، والروائي والمسرحي الإنجليزي البارز جون غولزويرثي، صاحب نوبل للآداب عام 1932، بوصفهما من صفوة كتاب تشارلز سكْرِبْنَرز صَنْز، وغيرهما من أسماء مخضرمة.

خلافاً لمعظم المحررين في زمانه، سعى بيركنز إلى البحث عن أسماء أدبية واعدة، ذات صوت مغاير، وحقق ما اعتُبر أوّل اكتشاف أدبي له، حين استقطب إف. سكوت فيتسجيرالد، الذي كان كاتباً مغموراً في حينه، حيث تولى بيركنز العمل، كمحرِّر أدبي على رواية «الأناني الرومانسي» Romantic Egotist، كعنوان مبدئي لأول عمل روائي لفيتسجيرالد. وجد بيركنز نفسه يخوض تحدياً مع كل العاملين في دار النشر، إذ لم يحب أحدٌ هناك روايةَ فيتسجيرالد، التي قوبلت برفض صريح! لكن بيركنز لم يسلِّم بالرفض، فعمل مع فيتسجيرالد على مراجعة مسودة الرواية، وإعادة كتابة أجزاء منها، وواصل المحرِّر الشغوف «زنّه» في آذان القائمين على الدار إلى أن خضعوا أخيراً لرغبته. شكّلت الرواية التي صدرت عام 1920م تحت عنوان «هذا الجانب من الفردوس» This Side of Paradise منعطفاً جديداً في المشهد الأدبي، وأرّخت لولادة جيل أدبي جديد سيقترن منذ ذلك الحين ببيركنز.

واصل بيركنز دعمه المطلق لفيتسجيرالد، وواصل العمل معه، متحمّلاً – بكثير حبّ وعاطفة – مزاج الكاتب الصعب، حيث كان بمثابة معاون له، موجوداً بقربه على الدوام، أثناء العمل على رائعته «غاتسبي العظيم» The Great Gatsby، التي أنجزها فيتسجيرالد عام 1925م.

اكتشاف همنغواي
كذلك، تبنى بيركنز تجربة الكاتب الأمريكي الشاب آنذاك إيرنست همنغواي، الذي تعرّف إليه من خلال فيتسجيرالد، وناضل من أجل أن توافق دار سكْرِبْنَرز على نشر باكورة همنغواي الروائية «الشمس تشرق أيضاً» The sun also rises، وذلك عام 1926م. فلقد عُدّ الكتاب جريئاً أكثر من المألوف، واعترض البعض على ما اعتبروه كسر همنغواي تابوهات جمة، وتجاوزه خطوطاً حمراء، بمقاييس ذلك العصر! لكن بيركنز أصرّ على المضي قدماً في نشر الرواية، ليمهد الطريق للنجاح التجاري والنقدي الذي لقيته رواية همنغواي الثانية «وداعاً للسلاح» Farewell To Arms – 1929، محققةً نجاحاً فاق روايته الأولى، ومتصدرةً قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. من تلك اللحظة فصاعداً، لم يعد أحد في دار سكْرِبْنَرز ليجادل بيركنز أو يشكك في خياراته. بات المحرِّر الأول في الدار، ومرجعيّتها الأولى والأخيرة، ليصبح قراره الحكم الفصل فيما يتعلق بنشر أي عمل أدبي، كما استحال «ختمُ» الموافقة الذي يمنحه لكتاب ما بمثابة ضمانة أكيدة لنجاحه.

لم يكن بيركنز محرراً تقنياً، أو آلياً، بل كان من النوع الذي يحتاج إلى أن يؤمن بالكتابة قبل أن يشرع في العمل عليها، تنقيحاً وتشذيباً وتحسيناً. عُرف بمثابرته ودقته وإيلائه اهتماماً بالغاً لأدق التفاصيل في الكتاب، وكان أقدر من المؤلفين أنفسهم على التقاط مواطن الخلل أو أي انحراف في المعمار البنائي. وساعده حرصه على العمل مع الأدباء عن قرب، ومتابعة تطور أعمالهم أولاً بأول، على تطوير مدرسة تحريرية، مريدوها قلّة، تقوم على مواكبة العمل الأدبي في مراحل تنفيذه ما يجعله أكثر اتساقاً وانسجاماً مع هيكلته وموضوعه ولغته وبيئته ككل.

إلى ذلك، كان بيركنز صديقاً للأدباء وأشبه بطبيب نفسي لهم، وطالما كان إسفنجة «سخيّة» تمتصّ تقلباتهم وأهواءهم العاصفة والناريّة، مظهراً صبراً استثنائياً في التعاطي مع أمزجتهم المتحوِّلة، وتفهماً لا يُضاهى في استيعاب عواطفهم التي تشتعل دونما توقع، كما قد تنطفئ فجأة. حين توفي بيركنز في العام 1947م، كان همنغواي لا يزال يعمل على روايته الشهيرة «العجوز والبحر» The Old Man and the Sea، فأهداها عند صدورها عام 1952م إلى ذكرى ماكسويل بيركنز.

إلى جانب فيتسجيرالد وهمنغواي، اكتشف بيركنز الروائي الأمريكي توماس وولف، صاحب رائعة «عن الزمن والنهر»، كما عمل بيركنز مع الكاتبة الأمريكية مارجوري كينان رولنغز، حيث كان وراء نجاح روايتها «الحيوان الصغير» The Yearling – 1938 التي نالت عنها جائزة بوليتزر لأفضل عمل روائي ذاك العام، كما تصدرت قائمة الروايات الأكثر مبيعاً في حينه. ويعود له الفضل أيضاً في شهرة كتاب أمثال جيه. بي. ماركواند وإيرسكِن كولدوِل وألان بيتون وجيمس جونز، صاحب رواية «من هنا إلى الأبدية» From Here to Eternity، حيث كان جونز آخر اكتشاف بيركنز. وكان جونز قد تقدَّم لبيركنز بمسودة رواية كان يعمل عليها، فنصحه بيركنز بأن يتركها، ووجّهه نحو كتابة «من هنا إلى الأبدية» التي نشرت عام 1951م، بعد سنوات ثلاث من وفاة بيركنز.

معارك وملاسنات
طبيعة العلاقة الثنائية بين المحرر والكاتب تفترض «تلازماً» وتعاوناً حثيثين. وفي الغالب، يتعين على المحرِّر أن يتعامل بـرفق مع ذات المبدع «القارورية» القابلة للكسر، الذي يعاف النقد السلبي بطبيعته، ولا يتقبّل أن يُواجه بنواقصه وهناته. ومع ذلك، لا يجب أن يقف أي اعتبار أمام مهمة التحرير النقدية التقويمية الشاملة. في فردوس الكتابة والنشر المثالي، يفترض أن تقوم العلاقة بين المؤلِّف والمحرِّر على ثقة وتقبّل مطلقيْن؛ فيُخضِع المؤلف، عن رضا، نصَّه الإبداعي لفحص المحرِّر وتقييمه، كما تقويمه، فيما يقوم المحرِّر بعملية المراجعة والتصويب باعتماد آلية النسيج أو إعادة «الحياكة» من خيوط العمل نفسه. الهدف ليس هدم البناء وإنما تقوية دعاماته وتقويمها. والهدف أيضاً ليس الدحض وإنما الحضّ؛ والهدف أيضاً وأيضاً ليس مواجهة الكاتب بأخطائه وإنما تقديم احتمالات أخرى له، أو فتح طاقة له على رؤية مغايرة في مفصل ما من العمل أو في بناء حدث أو في تصوير شخصية.

لكن عالم الكتابة والنشر ليس فردوساً هانئاً ومسالماً، فلطالما عاشت الساحة الأدبية (العالمية على الأقل) معارك «كلامية» عالية النبرة بين معسكري الأدباء والمحررين؛ فبينما يُعد الأدباءُ المحرِّرون «كائنات» حاقدة، متطفلين على إبداعهم، يتعمّدون الحطّ من قيمة منتجهم الأدبي ويعتاشون على هدم ما بنوه بـ «عرق» روحهم، ترى المحررين بالمقابل ميّالين إلى وسم المؤلفين بأصحاب الذوات المتورِّمة والمتضخمّة ممن يرفضون النقد ويخالون أنفسهم فوق التقييم والتقويم، وأن «كبرياءهم» الأدبية تحول دون اعترافهم بالشوائب التي تتخلّلُ منتجَهم.

من أحدث المعارك في هذا الخصوص التي تلقفتها وسائل الإعلام بشهية تلك الملاسنة العلنية بين الروائي والشاعر النيجيري بِنْ أوكري، الحائز على جائزة «البوكر»، ومحرره روبن روبرتسون. وكانت الملاسنة المريرة قد طفت على صفحات الصحف البريطانية في فبراير/ شباط 2012م، على خلفية المقابلة التي أجرتها صحيفة «الغارديان» مع روبرتسون، وهو شاعر اسكتلندي بارز بدوره، حيث زعم فيها أنه قام بإعادة كتابة أجزاء من الحوارات في «نجوم حظر التجوال الجديد» Stars of the New Curfew، وهي مجموعة قصصية للكاتب بِنْ أوكري نُشرت عام 1988م. فما كان من أوكري، بعد تصريح روبرتسون، إلا أن وجّه رسالةً مكتوبةً إلى الغارديان ينفي فيها أن تكون مجموعته القصصية قد أعيد كتابة أجزاء أو فقرات منها، موضحاً بالقول: «صحيح أن السيد روبرتسون محرِّر كفء، إلا أنه يميل إلى المبالغة بشأن أهميته»، ونفى أوكري، الذي نال جائزة البوكر عن روايته الشهيرة «طريق الجوع» The Famished Road، تماماً أن يكون روبرتسون قد تدخل في السرد أو في الحوارات في قصصه، معرباً عن أسفه أن يسعى روبرتسون إلى «أن ينسب إنجازات الآخرين إلى نفسه.»

لعلنا نستطيع أن نتوقّع هذا النوع من التجاذبات والمشاحنات بين الكُتّاب ومحرريهم، لا من باب تضخّم الذات المبدعة فحسب، هذه الذات التي تتعامل بحساسية مفرطة إزاء النقد السلبي، وإنما من منطلق أن معظم المحرِّرين هم أدباء ومبدعون أنفسهم، وبعضهم لهم إنجازات لافتة في الشعر والسرد على غرار روبرتسون أعلاه، كشاعر مميز. كذلك، نذكر الروائية الأمريكية المعروفة توني موريسون، الحائزة جائزة نوبل للآداب، حيث عملت قبل شهرتها كروائية محرِّرةً أدبية في دار «راندوم هاوس» الأمريكية في نيويورك، ولعبت دوراً بارزاً في إبراز كتاب سود أمثال أنجيلا ديفيس وهنري دوماس.

علاقة ملحمية
من العلاقات «الملحمية» الطابع بين المؤلفين والمحررين تلك التي جمعت بين المحرر الأشهر في تاريخ الأدب ماكسويل بيركنز والروائي الأمريكي توماس وولف. فلقد عُرف عن وولف غزارته الكتابية حد العبثية، الأمر الذي سبّب معاناةً تحريريةً بالغة لبيركنز. وكان وولف قد قدَّم مسودة روايته الأولى «أيها الملاك تطلّع باتجاه بيتك» Look Homeward, Angel – 1929 لدار «سكْرِبْنَرز صَنْز»، حيث كانت تقع في 300 ألف كلمة، فاجتهد بيركنز عليها، ونشرها بعدما أقنع وولف بشطب أكثر من 90 ألف كلمة منها. لكن المعركة الأكبر التي واجهها بيركنز كانت في العمل على رواية وولف الثانية «عن الزمان والنهر» Of Time and River – 1935، حيث كانت تقع في 3000 صفحة، وفاق حجمها مسودة روايته الأولى – قبل الحذف والشطب – بأربع مرات. بعد عامين من جهد تحريري خارق، نجح بيركنز في اختصار الرواية إلى 450 ألف كلمة، وهي نتيجة لم تكن مقنعة تماماً لوولف لكنه اضطر للخضوع للأمر الواقع.

والحق أن وولف، في بداية تعاونه مع بيركنز، كان راضياً، لكن علاقته مع محرِّره انحرفت عن مسارها وساءت مع الوقت، خاصة مع تنامي الهمس في الأوساط الأدبية من أن وولف لم يكن لينجح لولا بيركنز وأن الأخير قد أعاد كتابة روايات وولف فعلياً، وأن العملية تخطت التحرير الأدبي المتعارف عليه إلى إعادة بناء العمل الروائي جذرياً. لم يستطِع وولف أن يكبت غيظه المتفاقم على خلفية تلك التلميحات، فكتب رسالةً اتهم فيها بيركنز بأنه يسعى إلى تدميره. ثم ما لبث أن انسحب من دار «سكْرِبْنَرز صَنْز». على أن وولف، قبيل وفاته عام 1938 جرّاء مضاعفات ذات الرئة والسل، كتب رسالة مؤثرة لبيركنز، وصفه فيها بأنه أقرب صديق له، معترفاً بفضله عليه أدبياً.

ويبدو أن العلاقة بين الكاتب والمحرر اقترنت تاريخياً بالمماحكات، مع ترويج معشر الكتّاب مقولة مجحفة تذهب إلى أن «المحررين ليسوا سوى كُتَّاب فاشلين»! السائد هو أن المؤلفين لم يعترفوا بفضل المحررين على أعمالهم؛ فقد وصف الكاتب الأمريكي هنري جيمس التحرير الأدبي بأنه أشبه بـ«مهنة الجزّار»؛ كما شبّه الروائي الإنجليزي دي. إتش. لورانس عملية التحرير كما لو أن أحدهم يقصقص أنفه بمقصّ! كذلك، رأى الروائي الأمريكي جون أبدايك أن التحرير يشبه إلى حد ما الذهاب إلى الحلاق، مؤكداً: «لم أحبّ أبداً قصّات الشعر». وذهب الروائي الروسي الأمريكي فلاديمير نابوكوف إلى حد التحقير من مهمة المحرِّر، واصفاً إياه بأنه مجرد مصحِّح.

علاقة مثالية
بوجه عام، قد يكون الكُتّاب متحاملين على المحرِّرين، لكن هذا لا يمنع من الإقرار بأن ثمة محررين يتخطّون مهمتهم التي تقتضي الحفاظ على هوية العمل ونزاهته الأدبية، وشخصيته، واضعين بصمتهم «الثقيلة» على كل عبارة، وكل فقرة، في إعادة صياغة شبه كاملة، جاعلين العمل بعيد الشبه عن صاحبه الأصلي.

لعل المحرِّر الناجح في أحد تعريفاته هو ذاك «المندسّ» الخفي، الذي يطأ الجُمل والفقرات بخفة، وبذاك التأثير الندي، المحيي، لرشاش المطر الخفيف، فيصيب بللاً لا غرقاً، تورق معه الحياة الأصلية في النص. تستقيم هنا العودة، مرة أخرى، إلى تجربة ماكسويل بيركنز الاستثنائية، من خلال علاقة «الكاتب/ المحرر» المثالية التي جمعته بالروائي الأمريكي إف. سكوت فيتسجيرالد، كنموذج على صداقة فريدة، وتعاون لافت بين المبدع ومحرِّره الغيور على عمله قبل أي شيء آخر. لعل هذا التعاون بلغ ذروته في رائعة فيتسجيرالد «غاتسبي العظيم» The Great Gatsby، التي تُصنف من أعظم الروايات الإنجليزية في القرن العشرين. يمكن القول إن ماكسويل واكب كتابة «غاتسبي العظيم»، وكان مفصلياً في توجيهاته وإرشاداته التي قدَّمها لفيتسجيرالد أثناء وبعد الانتهاء منها.

تتمثل «تدخلات» بيركنز التحريرية الجوهرية في عدة محاور أبرزها، باعتراف فيتسجيرالد نفسه، أن بيركنز قدَّم له عدداً من الأفكار التي ساعدته في تطوير «موتيف» رئيس في الرواية. كذلك، وحين أوشك فيتسجيرالد على الانتهاء من الرواية، قدّر عدد كلماتها بنحو 50 ألف كلمة، وهو ما كان سيجعلها «صغيرة» حجماً بمقاييس النشر في حينه، فاقترح عليه بيركنز أن يوسِّع من مساحة القصة، ويضيف أفقاً لها، فكتب فيتسجيرالد عشرين صفحة أخرى، بواقع عشرة آلاف كلمة، وهو ما أضفى نوعاً من الاكتمال على عمل كان يمكن – لو ظل في حالته الأصلية – ناقصاً أو أقل نضجاً. إلى ذلك، طلب بيركنز من فيتسجيرالد أن يضيف المزيد من «اللحم» التعبيري والنفسي على جاي غاتسبي، الشخصية الرئيسة في الرواية؛ فقد بدا غاتسبي، بالنسبة لبيركنز، غامضاً بملامح شبحية. ولفت انتباه فيتسجيرالد إلى أنه من المهم تسليط الضوء على ماضي غاتسبي بحيث يبيِّن للقراء كيف جمع ثروته، وهو ما فعله فيتسجيرالد، ليصبح «غاتسبي» شخصيةً تصلح لكل أنواع التحليل والإسقاط النفسي والاجتماعي.

أمّا الإضافة الجوهرية فهي عنوان العمل. فالعنوان المبدئي الذي وضعه فيتسجيرالد للرواية كان: «وسط مكبّات النفايات والمليونيرات»، لكن بيركنز لم يتحمّس للعنوان. فاقترح فيتسجيرالد عناوين أخرى من بينها: «تريمالكيو في وِسْت إِغْ»، «تريمالكيو»، «في الطريق إلى وِسْت إِغْ»، «تحت الأحمر والأبيض والأزرق»، «غاتسبي ذو القبعة الذهبية». لكن بيركنز رفضها كلها، وأصرّ على «غاتسبي العظيم» عنواناً للرواية، وهو إصرار كان في مكانه.

مع انعدام صناعة التحرير الأدبي في عالمنا العربي، وإهمالها بصورة مريعة، ها هو الغرب يأسف لتراجع هذه الصناعة في الزمن الراهن، بعدما لم يعد المحرِّر يملك الوقت والجلَد والشغف، لمراجعة العمل الأدبي كما كان عليه الحال في السابق، وتحديداً في الحقبة التي يشار لها بـ«الحقبة الذهبية للتحرير الأدبي» التي سادت في بريطانيا والولايات المتحدة مطلع القرن العشرين وحتى منتصفه.

قد يكون «وجع الرأس» في عالم النشر العربي أخفّ وطأة نظراً لغياب أي مشاحنات من أي نوع بين الكتَّاب والمحررين (غير الموجودين أصلاً)، لكن المهاترات والملاكمات اللفظية بين الكتَّاب والأدباء العرب أنفسهم تكفينا وتفيض!

«ضربة» تحريرية
في العام 1961م، وبعد سنوات سبع من الكتابة، قدَّم الروائي والقاص الأمريكي جوزيف هِلَر مخطوطته الروائية «كاتش – 18» Catch-18 لمحرره الأدبي روبرت غوتليب. من وجهة نظر غوتليب النقدية المتفحصِّة، كانت الرواية جيدة، لكنها بالإمكان أن تكون أقرب إلى ممتازة منها إلى جيدة. فعمد المحرر الأدبي إلى إلصاق صفحات الرواية على أحد جدران مكتبه، وأعاد بناءها، كما أقنع هِلَر بحذف نحو ستين صفحة على الأقل.
لكن الضربة التحريرية الأكبر كانت تغيير العنوان؛ ففي العام نفسه كانت قد صدرت رواية للكاتب الأمريكي ليون أوريس بعنوان «ميلا 18» Mila 18، فرأى غوتليب أن رقم 18 في الكتابين قد يسبب إرباكاً أو خلْطاً لدى القرَّاء، لذا ارتأى البحث عن رقم جديد. فيما يشبه العصف الفكري، ناقش هِلَر وغوتليب عدداً من الخيارات، فوقع خياراهما مبدئياً على رقم 11، لكنه لم يبدُ مناسباً بالنظر إلى وجود رواية تحمل اسم «أوشينز 11» Ocean’s 11؛ ثم فكرا برقم 14 لكنه لم يرُقْ لهما، ووضعا رقم 26 أمام بصريهما فلم يبدُ مناسباً. أخيراً، صاح غوتليب بالكلمة السحرية: «وجدتها!» معلناً: «عنوان الرواية هو كاتش – 22!» حيث بدا الرقم 22، بالنسبة له، أروع من الرقم 18.
جراء هذه «الضربة التحريرية» الموفّقة، دخلت رواية «كاتش – 22» Catch – 22 تاريخ الأدب الحديث، كما دخل مصطلح «catch – 22» قاموس اللغة الإنجليزية، حيث يُستخدم للإشارة إلى موقف إشكالي غريب، أو وضع ينطوي على معضلة، أقرب ما تكون إلى المستحيل.

كلماتي فوق المراجعة..!
.. وحتى فيرجل، شاعر روما الأعظم، لم يكن راضياً تماماً، أو دائماً، عمّا يفيض به قلمه. فلقد اعتقد فيرجل أن قصيدته الملحمية الشهيرة «الإنيادة» كانت مليئة بالعيوب، وأن خللاً بيِّناً شاب مقاطع جمّة منها، حيث أوصى بأن يتمّ حرق القصيدة بعد وفاته.
لكن أصدقاء الشاعر، وبدعم من الإمبراطور أوغسطس، مؤسس الإمبراطورية الرومانية وأول حاكم لها، أقنعوا فيرجل بأن يغيِّر وصيّته، وأن يبقي على «الإنيادة». ويُقال، في هذا الخصوص، إنّ فيرجل، وقبيل وفاته في العام 19 قبل الميلاد، غير وصيته على نحو جذريّ؛ إذ منع أي شخص
من مراجعة القصيدة أو تحريرها، من منطلق أنه إذا لم يتمكّن هو نفسه من إتقان «الإنيادة» والبلوغ بها مستوى الكمال، فلا يريد أن يسعى شخصٌ آخر إلى أن يضع قلمه فيها بأي شكل من الأشكال. وهو ما يعني أن «الإنيادة»، بالصيغة التي وصلت إلينا إنما اعتمدت مبدأ «عدم التحرير»، كأنّ لسان الشاعر يقول: كلماتي فوق المراجعة!

أضف تعليق

التعليقات